الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
والمنهج أوامر ونواهٍ. إذن فالطاعة أن تمتثل أمرًا وتجتنب نهيًا، تلك هي الطاعة، كل منهج أو دين أمر ونهي، فامتثل الأمر واجتنب النهي. وأنت إذا تصفحت القرآن وجدت آيات الطاعة المطلوبة من المؤمن بمنهج الله والذي شهد بأنه لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله تتمثل في الأمر والنهي. فإذا ما استقرأت القرآن وجدت- كما قلنا سابقًا- أن الحق سبحانه وتعالى يقول مرة في الطاعة: {قُلْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ} [آل عمران: 32].ولم يكرر الحق هنا أمر الطاعة، فالمطاع هو المكرر، فأطيعوا أمر واحد، نطيع من؟.. الله والرسول. المطاع هنا هو الله والرسول، ومرة يكرر أمر الطاعة فيقول: {وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ} [المائدة: 92].ومرة ثالثة يقول: {وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النور: 56].ومرة رابعة يقول: {أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59].وأدخل هنا أولي الأمر أيضًا، إذن فمرة يأمر بالطاعة ويكرر المطاع فقط. أي: يوحد أمر الطاعة، ويكرر المطاع {قُلْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ}، فوحد أمر الطاعة وكررالمطاع، ومرة يكرر أمر الطاعة، ويكرر معها المطاع: {وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ}، ومرة يقول: {وَأَطِيعُواْ الرَّسُول} فإذا قال لك: أطيعوا الله والرسول فالأمر قد توارد فيه حكم الله وحكم الرسول.إذن فتطيع فيه الله والرسول، وإذا كان الله أمر إجماليٌّ وللرسول أمر تفصيليٌّ كالصلاة والزكاة والحج، إذن فتطيع الله وتطيع الرسول.وإذا لم يكن لله أمر فيه بل جاء من باطن التفويض في قوله سبحانه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ}، فهذا الأمر أطيع فيه الرسول، لأنه جاء في آية أخرى قوله: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}، لماذا؟ لأن الرسول عمل بالتفويض الذي أعطاه الله له حسب قول الحق: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ}.لقد قلنا: إن الطاعة امتثال أمر واجتناب نهي.. والموجود هنا آتاكم ونهاكم؛ فآتى هذه جاءت بدل وما أمركم والنهي موجود بلفظة {وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ} الأمر هو آتاكم، ولماذا لم يقل: وما أمركم به الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا؟ ولماذا لم يختصر فيقول: وما آتاكم الرسول فخذوه؟! لأن الإتيان من الرسول إما أن يكون قولًا، وإما أن يكون فعلًا، ولكن أيكون المنهيّ عنه فعلًا يفعله الرسول؟! لا يمكن.إذن فالنهي لا يتأتى إلا نهيًا ومنعا من الفعل، لكن الإيتاء يكون قولًا أو فعلًا؛ لأنه عندما يقول لك: لا تشرب الخمر، فماذا كان يفعل النبي كي نأخذه من الفعل؟ إن الرسول قطعا لم يشرب الخمر. إذن فقول الرسول وفعله يتأتى في المأمور به، وأما في المنهي عنه فلا يتأتى إلا قولًا. بالله أمِنَ الممكن أن يأتي بهذا عقل بشرى؟ لا يمكن، ولا يقولها إلا الله.ثم نبحث بحثًا آخر يا خوارج. إن الرسول إنما جاء ليبلغ عن الله- ومراد التبليغ أن يعلمنا بالحكم، لنؤدي مدلولة، فإذا جاء حكم قولًا بالنص، فالذي يشرحه لنا هو ما يفعله الرسول، وحين يفعله الرسول أيوجد مجال للكلام في هذا النص؟ لا يوجد، بل تكون المسألة منتهية. إذن فالفعل أقوى ألوان النص في الأوامر؛ لأن الأمر قد يأتي كلامًا نظريًا، وقد يتأول فيه البعض. لكن عندما يفعل الرسول يكون الحكم لازمًا؛ لأن الذي فعل هو المشرع.أرجم رسول الله أم لم يرجم؟ قد فعل رسول الله ذلك، وفعله هو نص عمليّ. إنّ الفعل ليس نصًا قوليًّا يُتأول فيه. لقد رجم الرسول ماعزًا والغامدية ورجم اليهودي واليهودية وكانا قد أحصنا بالزواج والحرية.. وفعل الرسول هو الأصل في الحكم. فدليل الخوارج إذن قد سقط به الاستدلال وبقي ما فعله المشرع وهو الرسول المفوض من الله في أن يشرع قولًا أو فعلًا أو تقريرًا، أي يرى أحدًا يفعل فعلًا فيقرّه عليه.ثم نبحثها بالعقل: إذا كنت تريد ألا يوجد في الزنا حد إلا الجلد، أتسوي بين من لم يتزوج ومن تزوج؟ إن المتزوجة لها عرض ولها زوج ولها نسب ونسل.هل هذه مثل تلك التي لم تتزوج؟! إن هذا لا يتأتى أبدا بالعقل، إذن فحكم الرجم موجود من فعل الرسول، والدليل الذي استدل به الخوارج هو دليل تسرب إليه الاحتمال. والدليل إذا تسرب إليه الاحتمال سقط به الاستدلال.{فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ}. ومن هو المقصود بذلك؟ المقصود به إباحة نكاح الإماء لِمن لم يجد طوْلا أن ينكح من الحرائر. وما هو العنت؟ العنت هو المشقة والجهد، وإرهاق الأعصاب، وتلف الأخلاق والقيم، لأن الإنسان إذا هاجت غرائزه إما أن يعف وإما أن ينفلت. فإن انفلت فقد تسرب الفساد إلى قيمه وإلى خلقه، وإن لم ينفلت والتزم، ماذا يحدث؟ سيقع بين أنياب المرض النفسي وتأتيه الأمراض العصبية. فأباح له الله أن يتزوج الأَمَةَ، إن لم يجد طوْلا في الزواج من الحرائر.وبذلك يكون مفهوم الآية: إن الذي لا يخشى العنت فليس ضروريا أن يتزوج الأَمَةَ. وليس هذا تزهيدًا في الأَمَةِ بل فيه احترام لها، لأنها إن تزوجت ثم ولدت ممن تزوجته فسيصبح ولدها عبدا، والله يريد أن يصفي الرق والعبودية، فيوضح له: دعها لسيدها فإن أعجبته وَحَلَت في عينيه ووطئها وجاءت منه بولد فستكون هي والولد من الأحرار إنهما قد دخلا في دائرة الحرية.إذن فالحق يريد أن يصفي الرق، ثم قال: {وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ} أي وصبركم عن نكاح الإماء. وأنتم في عفة وطهر عن مقارفة الإثم إن ذلك خير لكم من زواجهن، فنكاح الحرائر أفضل.ويذيل الحق الآية: بقوله: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي إنه {غفور} لما قد بدر وحصل منكم من ذنوب استغفرتم ربكم منها {رحيم} بكم فلا يعاجلكم بالعقوبة شفقة عليكم وحبا في رجوعكم إليه. اهـ.
.من فوائد الألوسي في الآية: قال رحمه الله:{وَمَن لَّمْ يَسْتَطعْ منكُمْ} {مِنْ} إما شرطية وما بعدها شرطها، وإما موصولة وما بعدها صلتها، و{مّنكُمْ} حال من الضمير في {يَسْتَطِعْ} وقوله سبحانه: {طُولًا} مفعول به ليستطع وجعله مفعولًا لأجله على حذف مضاف أي لعدم طول تطويل بلا طول.والمراد به الغنى والسعة وبذلك فسره ابن عباس ومجاهد، وأصله الفضل والزيادة، ومنه الطائل، وفسره بعضهم بالاعتلاء والنيل فهو من قولهم: طلته أي نلته، ومنه قول الفرزدق:قوله عز وجل: {أَن يَنكِحَ المحصنات المؤمنات} أي الحرائر بدليل مقابلتهن بالمملوكات، وعبر عنهن بذلك لأن حريتهن أحصنتهن عن نقص الإماء إما أن يكون متعلقًا بـ {طُولًا} على معنى ومن لم يستطع أن ينال نكاح المحصنات وإما أن يكون بتقدير إلى أو اللام والجار في موضع الصفة لـ {طُولًا} أي ومن لم يستطع غنى موصلًا إلى نكاحهن أو لنكاحهن أو على على أن الطول بمعنى القدرة كما قال الزجاج، ومحل {إن} بعد الحذف جر، أو نصب على الخلاف المعروف، وهذا التقدير قول الخليل، وإليه ذهب الكسائي، وجوز أبو البقاء أن يكون بدلًا من {طُولًا} بدل الشيء من الشيء، وهما لشيء واحد بناءًا على أن الطول هو القدرة أو الفضل والنكاح قوة وفضل، وقيل: يجوز أن يكون مفعولًا ليستطع و{طُولًا} مصدر مؤكد له إذ الاستطاعة هي الطول أو تمييز أي ومن لم يستطع منكم استطاعة أو من جهة الطول والغنى أي لا من جهة الطبيعة والمزاج إذ لا تعلق لذلك بالمقام.وقوله تعالى وتقدس: {فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أيمانكم} جواب الشرط أو خبر الموصول وجاءت الفاء لما مر غير مرة، و{مَا} موصولة في محل جر بمن التبعيضية، والجار والمجرور متعلق بفعل مقدر حذف مفعوله، وفي الحقيقة متعلق بمحذوف وقع صفة لذلك المفعول أي فلينكح امرأة كائنة بعض النوع الذي ملكته أيمانكم، وأجاز أبو البقاء كون (من) زائدة أي فلينكح ما ملكته أيمانكم، وقوله تعالى: {مّن فتياتكم} أي إمائكم {المؤمنات} في موضع الحال من الضمير المحذوف العائد إلى {مَا}، وقيل: {من} زائدة، و{فتياتكم} هو المفعول للفعل المقدر قبل، ومما ملكت متعلق بنفس الفعل، و{من} لابتداء الغاية، أو متعلق بمحذوف وقع حالًا من هذا المفعول، و{من} للتبعيض، و{المؤمنات} على جميع الأوجه صفة {فتياتكم}، وقيل: هو مفعول ذلك الفعل المقدر، وفيه بعد.وظاهر الآية يفيد عدم جواز نكاح الأمة للمستطيع لمفهوم الشرط كما ذهب إليه الشافعي وعدم جواز نكاح الأمة الكتابية مطلقًا لمفهوم الصفة كما هو رأي أهل الحجاز وجوزهما الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه لإطلاق المقتضى من قوله تعالى: {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النساء} [النساء: 3] و{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ} [النساء: 24] فلا يخرج منه شيء إلا بما يوجب التخصيص؛ ولم ينتهض ما ذكر حجة مخرجة؛ أما أولًا: فالمفهومان أعني مفهوم الشرط ومفهوم الصفة ليسا بحجة عنده رضي الله تعالى عنه كما تقرر في الأصول، وأما ثانيًا: فبتقدير الحجة مقتضى المفهومين عدم الإباحة الثابتة عند وجود القيد المبيح، وعدم الإباحة أعم من ثبوت الحرمة أو الكراهة، ولا دلالة للأعم على أخص بخصوصه فيجوز ثبوت الكراهة عند وجود طول الحرة كما يجوز ثبوت الحرمة على السواء، والكراهة أقل فتعينت فقلنا بها، وبالكراهة صرح في البدائع، وعلل بعضهم عدم حل تزوج الأمة حيث لم يتحقق الشرط بتعريض الولد للرق لتثبت الحرمة بالقياس على أصول شتى، أو ليتعين أحد فردي الأعم الذي هو عدم الإباحة وهو التحريم مرادًا بالأعم.واعترض بأنهم إن عنوا أن فيه تعريضًا موصوفًا بالحرية للرق سلمنا استلزامه للحرمة لكن وجود الوصف ممنوع إذ ليس هنا متصف بحرية عرض للرق بل الوصفان من الحرية والرق يقارنان وجود الولد باعتبار أمه إن كانت حرة فحر، أو رقيقة فرقيق، وإن أرادوا به تعريض الولد الذي سيوجد لأن يقارنه الرق في الوجود لا إرقاقه سلمنا وجوده ومنعنا تأثيره في الحرمة بل في الكراهة، وهذا لأنه كان له أن لا يحصل الولد أصلًا بنكاح الآيسة ونحوها فلأن يكون له أن يحصل رقيقًا بعد كونه مسلمًا أولى إذ المقصود بالذات من التناسل تكثير المقرين لله تعالى بالوحدانية والألوهية وما يجب أن يعترف له به وهذا ثابت بالولد المسلم، والحرية مع ذلك كمال يرجع أكثره إلى أمر دنيوي وقد جاز للعبد أن يتزوج أمتين بالاتفاق مع أن فيه تعريض الولد للرق في موضع الاستغناء عن ذلك وعدم الضرورة، وكون العبد أبًا لا أثر له في ثبوت رق الولد فإنه لو تزوج حرة كان ولده حرًا والمانع إنما يعقل كونه ذات الرق لأنه الموجب للنقص الذي جعلوه محرمًا لا مع قيد حرية الأب فوجب استواء العبد والحر في هذا الحكم لو صح ذلك التعليل قاله ابن الهمام وفيه مناقشة مّا فتأمل.وفي هذه الآية ما يشير إلى وهن استدلال الشيعة بالآية السابقة على حل المتعة لأن الله تعالى أمر فيها بالاكتفاء بنكاح الإماء عند عدم الطول إلى نكاح الحرائر فلو كان أحل المتعة في الكلام السابق لما قال سبحانه بعده: {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ} إلخ لأن المتعة في صورة عدم الطول المذكور ليست قاصرة في قضاء حاجة الجماع بل كانت بحكم لكل جديد لذة أطيب وأحسن على أن المتعة أخف مؤنة وأقل كلفة فإنها مادة يكفي فيها الدرهم والدرهمان فأية ضرورة كانت داعية إلى نكاح الإماء؟ ولعمري إن القول بذلك أبعد بعيد كما لا يخفى على من أطلق من ربقة قيد التقليد.{والله أَعْلَمُ بإيمانكم} جملة معترضة جيء بها تأنيسًا لقلوبهم وإزالة للنفرة عن نكاح الإماء ببيان أن مناط التفاخر الإيمان دون الأحساب والأنساب، ورب أمة يفوق إيمانها إمان كثير من الحرائر.والمعنى أنه تعالى أعلم منكم بمراتب إيمانكم الذي هو المدار في الدارين فليكن هو مطمح نظركم، وقيل: جيء بها للإشارة إلى أن الإيمان الظاهر كاف في صحة نكاح الأمة ولا يشترط في ذلك العلم بالإيمان علمًا يقينيًا إذ لا سبيل إلى الوقوف على الحقائق إلا لعلام الغيوب {بَعْضُكُم مّن بَعْضٍ} أي أنتم وفتياتكم متناسبون إما من حيث الدين وإما من حيث النسب، وعلى الثاني يكون اعتراضًا آخر مؤكدًا للتأنيس من جهة أخرى؛ وعلى الأول يكون بيانًا لتناسبهم من تلك الحيثية إثر بيان تفاوتهم في ذلك، وأيًا ما كان فبعضكم مبتدأ والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع خبرًا له، وزعم بعضهم أن {بعضكم} فاعل للفعل المحذوف، قيل: وفي الكلام تقديم وتأخير، والتقدير فلينكح بعضكم من بعض الفتيات، ولا ينبغي أن يخرج كتاب الله تعالى الجلي على ذلك.
|